يق لتحليل مُستقبل الاقتصاد وبناء سياسات ذات أدوات جديدة تُناسب واقع عدم قُدرة نظريات النقود التقليدية في تفسير ظاهرة النقود المُشفرة بصورة قد تدفع بتلك النظريات إلى أن تصبح مجرد تاريخ.
يُعتبر كينز بمثابة الأب الروحي للسياسات النقدية الحديثة التي تعاملت مع النقود بما يُمكن أن يكون لها من تأثيرات إيجابية في دفع النشاط الاقتصادي. فإذا كان علم الاقتصاد يبحث مُتغيرات التوازن بين العرض والطلب، فإن تلك المُعادلة تُقّوم بالنقود عند كينز، وبالتالي فإن عدم استقرار قيمة النقود يولد عدم استقرار النشاط الاقتصادي، ومن وحي تلك الأفكار صيغت السياسات النقدية الحديثة التي تُطبقها البنوك المركزية لتستهدف من خلالها التأثير على كمية النقود بالأسواق بصورة تتناسب مع مُستوى النشاط الاقتصادي بما يُحافظ على استقرار الأسعار ويضبط مُعدلات التضخم. وفي سبيل ذلك تُستخدم أدوات، مثل تحديد سعر الفائدة، وعمليات السوق المفتوحة (بيع وشراء الأوراق المالية للتأثير في حجم السيولة)، والتغيير في حجم الاحتياطي الإلزامي للبنوك، وغيرها من الأدوات التي تشترك جميعاً في استهدافها ضبط كمية النقود بالأسواق. ولكن بظهور النقود المُشفرة، نجد أن تلك السياسات النقدية سيتراجع تأثيرها ولن تتمكن من تحقيق أهدافها.
والنقود المُشفرة، أو الافتراضية، أو الرقمية، جميعها مُصطلحات تُعبر عن تلك النقود التي ظهرت حديثاً على شبكة الإنترنت انطلاقاً من خيال المبرمجين لتكون مقبولة في مجال التبادل التجاري عبر متاجر الإنترنت بالأساس، وهي عبارة عن أكواد تعبر عن رصيدمن القوة الشرائية المُسجلة في سجل إلكتروني دون أن يكون لها شكل مادي ملموس ولا تصدر من هيئات حكومية، وتخرج عن سيطرة البنوك المركزية وتحد من قدرتها على صناعة السياسات النقدية التقليدية. فقد كان انتشار تلك العملات ضيقًا جداً لعدم قناعة مؤسسات النقد العالمية بها، إلى أن حدثت الأزمة المالية العالمية عام 2007/2008 التي دفعت نحو تراجع الثقة في المؤسسات المالية العالمية، وتعززت الثقة بصورة تدريجية في العملات المُشفرة، ليتسع نطاق قبولها مع الأيام في ظل استمرار تراجع الثقة في التنظيم النقدي التقليدي، والصراع التجاري بين الولايات المُتحدة الأمريكية والصين. وقد ازدادت قوة تلك العملات مع دخول المُضاربين كقوة طلب إضافية تدعم هذه العملة وتدفع نحو رفع قيمتها، وسرعة انتشارها، حتى إن عددها قد تجاوز عشرة آلاف عملة مُشفرة بقيمة سوقية تًجاوزت تريليونى دولار، وتجاوز عدد مُستخدميها عالمياً 300 مليون مُستخدم مع دخول عام 2022.
والقضية هنا تتمثل في كون النقود المُشفرة تخرج عن سيطرة البنوك المركزية في العالم، مما يجعلها لا تعترف بها وتحاربها بكل استطاعتها. ورغم ذلك، فإن تلك العملات تفرض نفسها رغم أنها لا تتوافر لها خصائص النقود التقليدية بصورة كاملة كمعيار للقيمة، ومخزن لها، ووسيط للتبادل يتمتع بالقبول العام.ومع تزايد وتيرة انتشارها تظل فكرة تطويع العملات المُشفرة لواقع السياسات النقدية التقليدية التي تُمارسها البنوك المركزية بمثابة مهمة مُستحيلة، والمطلوب هنا البحث عن أدوات تعامل، وتأثير، وتنظيم لذلك الواقع الجديد، ولكي يحدث ذلك فإننا نحتاج لدراسة سلوك الأفراد، حال انفراد النقود المُشفرة بالنشاط الاقتصادي، وحال قبول فكرة أن يكون للنشاط الاقتصادي نظامان نقديان، أحدهما تقليدي، والآخر مُشفر. وإذا كانت نظرية سلوك المُستهلك تقوم على تحليل سلوك الأفراد عند اتخاذهم قرار شراء السلع والخدمات بهدف تحقيق أكبر إشباع وتعظيم للمنفعة على اعتبار أن الأسعار الجارية للسلع والخدمات هي التي تحدد إنفاق المُستهلك في ظل ثبات نسبي لقيمة النقود، فمن المطلوب بحث تطبيق تلك النظرية في حال التغيير السريع لقيمة النقود وتغير أنواعها وأحجامها.
وإذا أطلقنا لأنفسنا العنان لتوقع سلوك الأفراد في ظل اقتصاد قائم على النقود الرقمية وحدها، يُمكن لنا تصور أن سيادة النقود المُشفرة مُتغيرة القيمة لا يتصور معه قيامها بوظيفة مخزن القيمة، فلن يدخر الأفراد العاديون ويحتفظوا بثرواتهم في صورة نقود مُشفرة، وسيقتصر دورها كمعيار ووسيط لحظي للقيمة، مما يعزز من توجه الأفراد في أن يحتفظوا بما يمتلكون من قيمة في صورة عقارات، أو معادن، أو استثمارات وينحصر استخدامهم للعملات المُشفرة على ما يضطرون إليه من معاملات يختارون لها العملة المُناسبة وفقاً لدرجة قبولها، مما يتعاملون معه من متاجر، وبمجرد انتهاء عملية التبادل يتخارجوا من تلك النقود بسرعة. فباستثناء شريحة المضاربين سيكون اقتناء تلك العملات لحظيا مُرتبطا بأن تكون القيمة محفوظة في صورة أصول، وهو الأمر الذي يدفع الأصول الحقيقية نحو ارتفاع قيمتها، ويقوض من نطاق الاقتصاد المالي السائد حالياً بما يرتبط به من آليات.
وأمام سيادة الأصول ربما نجد أن البنوك تعود لإصدار العملات المقومة بالذهب والفضة، لينتهي عصر إصدار النقود المرتبطة بقوة الاقتصاد، وتعود البنوك لفكر أرسطو الذي يرى أن النقود وسيط لا غنى عنه، لكنها ليست أداة إنتاج حال كونها تقوم بالذهب أو الفضة ولا تلد نقودا ومن غير العادل تقرير فوائد عليها، لنجد أنفسنا أمام حالة عودة البنوك المركزية لإصدار النقود المقومة بالمعادن، والتي ستدفع نحو تراجع آلية تقديمها للفوائد، وربما يصل الأمر إلى حصول البنوك التجارية على رسوم لحفظ النقود المقومة بالمعادن.
وحال حدوث ذلك يُمكننا توقع تراجع قدرة الطبقات الفقيرة والمتوسطة على الادخار، حيث لن تُمكنها دخولها من اقتناء الأصول، ولن تُقدم لها البنوك التجارية أرباحاً حقيقية عما يُمكن أن تودعه من نقود في خزائنها، فضلاً عن عدم قُدرة الغالبية من تلك الطبقات على الاستثمار الحقيقي، أو المُضاربة وامتلاك الثروة المُتغيرة المقومة بالعملات الافتراضية. فالثروة الافتراضية هي ثروة مُتحركة تحتاج لإدارة انتقال لحظي من عملة لأخرى بناء على مُتغيرات مُعقدة. ربما تكون صناديق الاستثمار في الأنشطة الاقتصادية، أو في تداول العملات المُشفرة أحد الحلول أمام الأفراد، لكن المؤكد أننا نتجه نحو اقتصاد جديد ذى نظام نقدي ثُنائي يجمع بين نقود مقومة بالمعادن، ونقود مُشفرة في غياب النقود الورقية التقليدية. هذا الأمر يحتاج لدراسات مُطولة لسلوك الأفراد في ظل تلك المُتغيرات المُتسارعة لبناء تنظير للواقع الجديد يؤسس لسياسات نقدية ومالية جديدة بعيداً عن الفكر والنظريات القائمة، مع التخلي عن مُحاولات تطويع الواقع الجديد لنظريات يسبقها الزمن.