يُعَدُّ كل من الأرض ورأس المال والعمالة من الركائز الأساسية للنظرية الكلاسيكية في الاقتصاد، وتُعَدُّ هذه المكونات الثلاثة من العوامل الأساسية للإنتاج في الاقتصاد القديم، فهي التي تحدد مستوى الإنتاج، وفي العصر الحديث منحَت الكلاسيكية الجديدة أهميةً بالغة للتقدم التكنولوجي؛ حيث أصبحَت المعرفة الفنية والذكاء والإبداع والابتكار والمعلومات عوامل إضافية وأصول هامة في الاقتصاد الحديث.

وتجاوزَت تقنيات الكمبيوتر بأهميتها كل من رأس المال والعمالة، لتكون أحد أهم العوامل التي يعتمد عليها النمو الاقتصادي.

وهذا التعاظم الكبير لدور المعرفة والابتكار كان له دور أساسي في تعزيز المنافسة الدولية، وزادت الجهود الاستثمارية في المعرفة ذات الجودة العالية، لترسيخ مفهوم جديد يُعرَف بـ “اقتصاد المعرفة”، واتخاذه كنهج أمثل لرفع حدة المنافسة والاستدامة والاستمرار في النمو في هذا العالم الذي يتصف بدرجة عالية من العولمة والنشاطات الاندماجية للأسواق المختلفة والمتنوعة.

لذلك انتهجَت الدول المتقدمة نهجاً قائماً على إحداث اقتصاد أساسه الخدمات، في حين أنَّ البلدان النامية والمتخلفة استمرت على النهج القديم القائم على الاقتصاد الذي يعتمد على الصناعة والزراعة والتجارة.

ومن أهم الأشكال لاقتصاد المعرفة: النشاطات البحثية، والدعم الفني، والاستشارات في شتى المجالات.

وهذا ما أدى إلى خلق اقتصاد مترابط عالمياً؛ وذلك لأنَّه اعتمد على مختلف مصادر المعرفة، من خبرات بشرية وأسرار تجارية، إلى أن وصلَت إلى مرحلة باتت فيها هذه العوامل هي نقطة الحسم في النمو الاقتصادي، ومن أهم الموارد الاقتصادية.

ولمزيد من الشرح والتفصيل حول هذا الموضوع، سنتناول ما يلي:

مفهوم اقتصاد المعرفة.
تاريخ اقتصاد المعرفة.
أهمية اقتصاد المعرفة.

مفهوم اقتصاد المعرفة:

يتمحور مفهوم اقتصاد المعرفة حول: أنَّه الاقتصاد الذي يعتمد على صناعة وتداول وتقييم المعرفة؛ وذلك لأنَّه في هذا النوع من الاقتصاد تقلُّ الأهمية المترتبة على تكاليف العمالة، كما لا يستخدم المفاهيم التقليدية للاقتصاد، مثل النُدرة في الموارد.

ويتم تعريف اقتصاد المعرفة: بأنَّه ذلك النوع من الاقتصاد القائم على نوعيَّة وكميَّة المعلومات التي يتيحها من أجل تحقيق نموِّه، بالإضافة إلى إتاحة أكبر قدر من التسهيلات للحصول عليها واستخدامها.

كما أنَّه نوع من أنواع الأنظمة الاقتصاديَّة التي تعتمد على استخدام رأس مال فكري في الإنتاج والاستهلاك، وقد يحصل هذا الاقتصاد على حصة كبيرة ضمن النشاطات الاقتصاديَّة للدول ذات النموِّ الاقتصادي المتقدم.

وإذا كان الاقتصاد بمفهومه التقليدي هو علم الندرة؛ أي الندرة بالموارد التي تقابلها الزيادة المضطردة لحاجات الناس ومتطلباتهم، فإنَّ اقتصاد المعرفة هو اقتصاد الوفرة.

ومع تطوُّر المعرفة البشرية التي لا تستنفد بل تتوالد ذاتياً بالاستهلاك، وذلك عند مشاركتها ونقلها من طرف إلى آخر، وأيضاً بفضل التكنولوجيا الرقمية، فإنَّ التكلفة الحدية لأيَّة نسخة تأتي بعد النسخة الأولية تنخفض تدريجياً إلى أن تصبح أقرب إلى الصفر، وهذا ما يخلق الوفرة في الإنتاج، ليصبح مبدأ الوفرة هو السمة الأساسية لاقتصاد المعرفة.

وباختصار إنَّ اقتصاد المعرفة هو الاقتصاد الذي يكون فيه خلق المعرفة ونشرها واستخدامها، هو الدافع الأبرز لعملية النمو المستدام ولزيادة الثروة وفرص العمل في كل المجالات المتاحة.

لذلك، فإنَّ وجود المعرفة يعتمد أساساً على وجود تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات والابتكار والإبداع؛ أي إنَّ المعلومات هي العنصر الوحيد في العملية الإنتاجية‏، والمعلومات هي المنتج الوحيد في هذا الاقتصاد‏، والمعلومات وتكنولوجياتها هي التي تُشكِّل أو تحدد أساليب الإنتاج وفرص التسويق ومجالاته‏.‏

ويُعرِّف الباحث الاقتصادي “دومينيك فورا” اقتصاد المعرفة بأنَّه: “تخصص فرعي من علم الاقتصاد، يهتم أساساً بالمعرفة من جهة، ومن جهة أخرى يعاير ظاهرةً اقتصادية حديثة تتميز بتغيُّر سير الاقتصاديات من حيث النمو وتنظيم النشاطات الاقتصادية”.

كما يُعرِّف الأستاذ “عبد الرحمن الحاج” اقتصاد المعرفة بأنَّه: “الاقتصاد الذي تُحقِّق فيه المعرفة الجزء الأعظم من القيمة المضافة؛ وهذا يعني أنَّ المعرفة في هذا الاقتصاد تُشكِّل مكوناً أساسياً في العملية الإنتاجية كما في التسويق‏،‏ وأنَّ النمو يزداد بزيادة هذا المكون‏ القائم على تكنولوجيا المعلومات والاتصال‏،‏ كونها المنصة الأساسية التي يُطلَق منها”.

فيما يُعرِّفه آخرون بأنَّه: “الاقتصاد الذي ينشئ الثروة من خلال عمليات المعرفة وخدماتها كالإنشاء، والتحسين، والتقاسم، والتعلُّم، والتطبيق، والاستخدام للمعرفة بأشكالها في القطاعات المختلفة بالاعتماد على الأصول البشرية وغير الملموسة ووفق خصائص وقواعد جديدة”.
إقرأ أيضاً: مفهوم الإدارة الإلكترونية وأهميتها
تاريخ اقتصاد المعرفة:

يعود تاريخ ظهور اقتصاد المعرفة إلى خمسينيات القرن العشرين؛ حيث بدأ بالانتشار عندما اجتاحت موجة من التطور قطاع الصناعة على حساب قطاع الزراعة؛ وهذا ما أدَّى إلى ظهور هذا القطاع الاقتصادي الجديد في الدول المتطورة، فكان بذلك نواةً لنظام اقتصاد جديد، وأُطلِق عليه اسم “مرحلة ما بعد الصناعة”.

وقد تمَّ بناء القطاعات الاقتصاديَّة الحديثة على فكرة المعرفة، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، وهذا ما ساهم مساهمةً كبيرةً في حدوث تطوُّرٍ كبير بالنشاط والفكر الإنساني في المجالات كافةً، فلم يَعُد كل من النفط والذهب يسيطران على الصناعة التقليديَّة؛ بل أصبح إمكان إنتاج برامج معلوماتيَّة أحد أولويات القطاعات الاقتصادية الحديثة.

وعموماً إنَّ مفهوم “المعرفة” ليس بالأمر الجديد نسبياً؛ بل الجديد هو حجم تأثيرها الحالي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وفي نمط حياة الإنسان المعاصر.

فقد شهِد العالم ابتداءً من الربع الأخير من القرن العشرين تغييراً يُعَدُّ الأعظم في تاريخ البشرية، وهو التحول الثالث، بعد ظهور الزراعة والصناعة.

وشكَّلَت ثورة العلوم والتكنولوجيا فائقة التطور، الصورة الأمثل لهذا التحول، والتي تشكل ثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات ذروتها اليوم.

وبإلقاء نظرةٍ خاطفة على التحولات الكبرى في حياة المجتمعات البشرية، نستطيع أن نحدِّد بدقة بداية ظهور اقتصاد المعرفة، وكانت هذه التحولات انعكاساً لمدى التطوُّر الذي بلغَته المعرفة في كل مرحلة من تلك المراحل.

فكان التحوُّل الأوَّل العظيم في حياة البشر، هو قيامهم بالزراعة المستقرة، والتي بدأَت في أحواض الأنهار الكبرى، كالنيل ودجلة والفرات، ولقد عرفَت تلك البيئات الخصبة الأشكال الأولى للتنظيم كالدولة والسلطة والحكم والشرائع والقوانين، وأدَّى ذلك إلى نشوء تجمعات سكانية كبيرة نسبياً؛ ومن ثمَّ ظهر التنظيم الإداري والسياسي الذي تناسب مع مستوى تطوُّر المجتمع البشري في تلك المرحلة.

لقد قامت الحضارات في تلك الحقبة الطويلة على ما سمِّي بـ “المعرفة الزراعية”، واتسمَت بتركُّز تطوُّر المعرفة في مناطق محدَّدة، وبما سمِّي المعرفة واحتكارها.

والتحوُّل الثاني العظيم، تمثَّل في قيام الثورة الصناعية، ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثامن عشر في إنكلترا، ومن ثمَّ انتشارها على امتداد القرن التاسع عشر في أوروبا الشمالية والغربية وشمال القارة الأميركية واليابان، وروسيا لاحقاً.

وتُعَدُّ الثورة الصناعية بداية التقدُّم في البلدان التي تحقَّقَت فيها، ومن ثمَّ في العالم أجمع؛ حيث شمل هذا التقدم فروع النشاط الاقتصادي كافةً كالصناعة، والزراعة، والنقل، والمواصلات، والتجارة، والمصارف، وغير ذلك، وشكَّل أرقى وأعظم درجات الاتساع في مدارك الإنسان ومعارفه.

ومن أبرز ما ميَّز المعرفة في تلك المرحلة أنَّها كانت تستند إلى التطبيق؛ أي إنَّ التطبيق والتجريب كان يسبق النظرية، فقد وُضِعَت نظريات كثيرة على أساس ابتكارات وتطبيقات كان يتوصَّل إليها المبتكرون والمخترعون في الممارسة العملية أولاً.

ونصل أخيراً إلى التحوُّل الثالث الكبير، والذي تمَّ فيه أعظم تغيير في تاريخ البشرية؛ إذ بدأ في الربع الأخير من القرن العشرين، وتمثَّل بثورة العلوم والتكنولوجيا فائقة التطوُّر، وما نجم عنها من ثورة في المعلوماتية والاتصالات؛ حيث باتت المعلومات والمعرفة مورداً أساسياً من الموارد الاقتصادية؛ لا بل المورد الاستراتيجي الجديد في الحياة الاقتصادية المكمِّل للموارد الطبيعية ونشوء ما اتفق على تسميته “اقتصاد المعرفة” أو “الاقتصاد المبني على المعرفة”.

وهكذا، بعدما كانت الأرض والعمل هما المورد الرئيس للثروة في العصر ما قبل الصناعي، ثمَّ حلَّ مكانهما رأس المال والطاقة كونهما المولِّد الرئيس للثروة، أصبح العلم والمعرفة هما العنصر الرئيس بين عناصر الإنتاج في المجتمع في العصر الراهن، والذي صار يُعرَف باسم “العصر ما بعد الصناعي”، وبات إنتاج المعرفة واستثمارها واستهلاكها وتداولها المصدر الرئيس للنمو.

إنَّ السِّمة الرئيسة لهذه المرحلة هي أنَّ التطبيقات العملية صارت تأتي استناداً إلى النظري

المدونات
ما هو الاتجاه الجديد

المدونات ذات الصلة

الاشتراك في النشرة الإخبارية

احصل على آخر الأخبار والتحديثات

النشرة الإخبارية BG