في أقل من ربع قرن، تسارع التحوُّل الرقمي بفضل شبكة الإنترنت، وظهور الشركات التقنية التي استثمرت في صناعة البرمجيات والتجهيزات. وفي السنتين الماضيتين، ساهمت جائحة «كورونا» في دفع هذا التحول إلى آفاق غير مسبوقة جعلت العالم الافتراضي جزءاً من الحياة اليومية لكل إنسان.
وبينما تتباين التقديرات حول استهلاكه للطاقة ومقدار الانبعاثات الناتجة عنها، يمكن القول بثقة متزايدة، إن قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات هو من بين القطاعات القليلة التي تتحرك على المسار الصحيح لخفض بصمتها الكربونية، ومواجهة تحديات تغيُّر المناخ العالمي.
– البصمة الكربونية للتقنيات الرقمية
أدَّت التحسينات المستمرة في كفاءة الطاقة ضمن مراكز وشبكات البيانات، إلى قيام وكالة الطاقة الدولية بتصنيف قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، كواحد من القطاعات القليلة التي تتحرك على المسار الصحيح لإزالة الكربون. فمن بين 46 تقنية رئيسية للطاقة وقطاعات الاستخدام النهائي التي تُعتبر بالغة الأهمية لوقف ظاهرة الاحتباس الحراري، وجد تقرير «تتبع تقدم الطاقة النظيفة»، الصادر عن الوكالة في منتصف سنة 2020، أن مراكز البيانات وشبكات نقلها، هي واحدة من بين 6 تقنيات فقط تتوافق مع سيناريوهات التنمية المستدامة، بناءً على اتجاهات الكفاءة الحالية. ولكن هذا يتوقف على حسن اختيار مواقعها ومصادر الطاقة التي تتزود بها، من دون أن تتعارض مع الاحتياجات الأساسية للمجتمعات المحلية. ذلك أن مراكز معالجة البيانات الرقمية وتخزينها ونقلها تستهلك كميات ضخمة من الكهرباء.
وكانت تقارير سابقة لمنظمات مختلفة، قد أثارت مخاوف حول البصمة الكربونية لقطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، إلا أن مراجعات أجرتها وكالة الطاقة الدولية أظهرت وجود مبالغات في هذه التقارير. ومن بين هذه التقارير ما صدر عن منظمة «شيفت بروجكت» الفرنسية سنة 2019 الذي خلُص إلى أن مشاهدة الفيديو عبر الإنترنت كانت مسؤولة عن انبعاث أكثر من 300 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون في 2018، أي ما يعادل إجمالي الانبعاثات من فرنسا. وفي 2020، دحض تقرير «موجز الكربون» الصادر عن وكالة الطاقة الدولية الافتراضات التي بنت عليها منظمة «شيفت بروجكت» تقديراتها التي جعلتها تبالغ في كمية الانبعاثات بمقدار 50 ضعفاً.
كما خلُصت دراسة نُشرت في دورية «نيتشر كلايمت تشينج» في 2018، إلى أن الانبعاثات التراكمية عن تعدين بيانات العملة الرقمية «بيتكوين» كافية وحدها لاستنفاد ميزانية الكربون المتبقية للحدِّ من الاحترار العالمي في نطاق درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل النهضة الصناعية. ثم نشرت وكالة الطاقة الدولية مراجعة لهذه الدراسة وجدت أن تعدين «البيتكوين» مسؤول عن نحو 10 إلى 20 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً، أو 0.03 إلى 0.06 في المائة من الانبعاثات العالمية.
توفِّر الأمثلة السابقة لمحة عن الطلب على الطاقة لبعض الخدمات الرقمية، ولكن قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لا يقتصر على هذه الخدمات، فهو يشمل على سبيل المثال مراكز البيانات التي تخزن البيانات وتعالجها، وشبكات النقل التي تنقل البيانات عبر الشبكات الثابتة أو المتنقلة، وأجهزة الاتصال كالحواسيب والهواتف الذكية التي تتبادل المعلومات عبر الشبكة. وهذه جميعاً نشاطات تتميز بتركيز كبير في استهلاك الطاقة، وما زالت بحاجة إلى دراسات دقيقة لمعرفة الحاصل النهائي منها، وما هو الحجم الفعلي للتوفير في الاستهلاك الذي نجم عنها، ومقارنة هذا بحجم استهلاكها للطاقة. وهنا لا بد من التمييز بين النشاطات الرقمية المنتِجة، وتلك المخصصة للتسلية والترفيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ورغم النمو السريع في خدمات البيانات والأجهزة المتصلة، كان الطلب على الطاقة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مستقراً نسبياً خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث ساعدت التحسينات السريعة في كفاءة الحوسبة ومراكز البيانات وشبكات النقل في خفض الاستهلاك.
وتشير التقديرات المنشورة حالياً، إلى أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تستحوذ على نحو 4 إلى 7 في المائة من الطلب العالمي على الكهرباء. وبشكل وسطي، تعادل الانبعاثات الصافية لهذا القطاع 2 في المائة من مجمل الانبعاثات الناتجة عن النشاط البشري، وهي تقارب بذلك انبعاثات قطاع الطيران العالمي.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل عدد من الممارسات غير المستدامة في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ومن ذلك -مثلاً- أن مجمل صانعي الأجهزة الرقمية يدفعون باتجاه مفهوم «الاستبدال بدلاً من التصليح». كما تفرض تحديثات التطبيقات ترقية الأجهزة الرقمية، مما يفاقم مشكلة النفايات الإلكترونية ويزيد الطلب على الموارد، ويؤدي بالتالي إلى زيادة التلوث عبر دورة حياة المنتج من تعدين المواد الأولية إلى التخلص النهائي.
ومن ناحية أخرى، فإن الرهان على كفاءة الحوسبة وحدها لخفض استهلاك الطاقة لا يمكن الركون إليه مستقبلاً. فبينما كانت كفاءة الحوسبة التي تمثِّل عدد العمليات الحسابية لكل كيلوواط في الساعة من الكهرباء، تتضاعف كل 1.6 سنة تقريباً، تباطأت مضاعفة كفاءة الحوسبة في السنوات الأخيرة لتصل دورتها إلى 2.6 سنة تقريباً. غير أن الدراسات والابتكارات المتتالية تُظهر قدرة قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على الاستمرار في تحسين الكفاءة عبر البرمجيات والخوارزميات والأجهزة الخاصة بالتطبيقات.
– القطاع الرقمي يطوِّر أدواته للحفاظ على البيئة
بصرف النظر عن الفوائد من زيادة الكفاءة في استخدام الطاقة، يلعب مصدر الطاقة دوراً مهماً في تقليل الانبعاثات. ومن الملاحظ أن أكثر من نصف الشركات التقنية، بما فيها «غوغل» و«آبل» و«مايكروسوفت» و«ميتا»، تستخدم بالفعل مصادر الطاقة المتجددة لمعظم احتياجاتها من الطاقة. ومن المتوقع أن تكون 3 من كل 4 شركات تقنية تعتمد على الطاقة المتجددة في 2030. ويُظهر الخلاف الحالي بين شركة «ميتا» («فيسبوك» و«واتساب») والسكان المحليين في إحدى المناطق الهولندية؛ حيث تعتزم الشركة بناء مركز ضخم للبيانات الرقمية، حجم المنافسة على الكهرباء بين هذا النوع من النشاط واحتياجات السكان المحليين.
وتعمل شركات عديدة على تجريد منتجاتها، باستخدام العناصر الرقمية بدلاً من العناصر المادية، وخلق عوالم افتراضية تقلل إلى حدٍّ بعيد من استهلاك الموارد الطبيعية. ويتوقع تقرير «مسار إزالة الطابع المادي من أجل الربحية والاستدامة» الذي أصدره مركز «إريكسون إندستري لاب» في السنة الماضية، أن يشهد المستقبل مزيداً من المؤسسات غير الفيزيائية التي تستفيد من التكنولوجيا السحابية والمتنقلة، بحيث تكون الناظم للعمل في تلبية احتياجات العملاء المتطورة بحلول 2030.
ويتوقع تقرير «إريكسون إندستري لاب» الذي اعتمد على استمزاج آراء أكثر من 5000 صانع قرار وموظف في 11 سوقاً عالمية، أن تتم 60 في المائة من الأعمال المكتبية عن بعد خارج مباني الشركات بحلول 2030. وتبرهن جائحة «كوفيد-19» على قدرة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تمكين الموظفين والطلاب من العمل والدراسة عن بعد، وما يرافق ذلك من خفض للتنقلات وانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون.
وفيما يتعلق بموضوع الحلول الموفرة للطاقة، يتوقع التقرير أن تكون الخدمات السحابية وشبكات الاتصال من الجيل الخامس وما يليها عاملاً مساعداً، إذا استخدمت بالطريقة الصحيحة، في خفض استهلاك الطاقة والأثر البيئي بشكل عام. ويتوقع 80 في المائة من صانعي القرار في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات توفيراً كبيراً في الطاقة بسبب استخدام الحلول السحابية المتعددة بحلول 2030، ليس فقط لمؤسساتهم ولكن للمجتمع كله.
ويمكن أن تدفع الرقمنة إلى مكاسب جديدة في كفاءة الطاقة عبر قطاعات مختلفة كالمباني والنقل. فعلى سبيل المثال، تشكل المباني السكنية والتجارية ثلث الطلب العالمي على الطاقة و55 في المائة من استهلاك الكهرباء، ويمكن لرقمنة أنظمة الطاقة في المباني والأجهزة الاستهلاكية أن تحسن بشكل كبير من كفاءة الطاقة، عبر ضمان حصر استهلاك الطاقة فقط عندما وحيثما تكون هناك حاجة لها.
وفي مجال النقل، تتيح بيانات حركة المرور الآنية والإدارة المرورية المحسنة للسائقين الاستجابة للازدحام وظروف الطريق على الفور، مما يخفض من استهلاك الوقود. كما يُعدُّ نقل البضائع مجالاً آخر يسمح لتطبيقات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بتحقيق وفورات كبيرة في الطاقة وخفض الانبعاثات، من خلال انتقاء المسارات الأفضل، وتحسين سلاسل التوريد، ومشاركة البيانات بين الشركات.
مثل جميع القطاعات، تواجه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تحديات كبيرة في جهودها للتخلص من الانبعاثات. ولكنها في الوقت ذاته أداة مهمة في تعزيز كفاءة استخدام الطاقة، وإتاحة العمل عن بعد، وتسهيل الانتقال إلى عالم صديق للبيئة وأكثر استدامة.
مواضيع
بيئة لبنان
الأكثر قراءة

اليوم
الأسبوع

1
تلوّث الهواء يهدّد حياة الملايين في العالم العربي
2
هل العرب مستعدون لمواجهة آثار التحوّل المناخي؟
3
10 نصائح لاستخدام الطاقة الشمسية في المنازل
4
دراسة: موجات الحر تتحرك أبطأ ما يتسبب بـ«عواقب وخيمة للسكان»
5
كيف تكيَّفت الحيوانات للعيش في المدن؟
مقالات ذات صلة
مركبات مجموعة «لوسيد» للسيارات الكهربائية (الشرق الأوسط)
«لوسيد» تجمع مليار دولار من إحدى شركات «السيادي» السعودي

أبرمت مجموعة «لوسيد» للسيارات الكهربائية صفقة مع مساهمها الأكبر شركة «أيار الثالثة للاستثمار» لشراء حصة قيمتها مليار دولار في صانعة السيارات الكهربائية.
«الشرق الأوسط» (الرياض) الاثنين 25/03 – 15:30
الفريق الميداني التابع للمركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي خلال عملية تحليل المياه (الشرق الأوسط)
السعودية تجري 25 ألف تحليل للحد من التلوث البيئي البحري
فنلنديون خلال احتفال وفي وسط الصورة فتاتان تبتسمان وتحملان علم فنلندا (متداولة)
ما الذي يجعل فنلندا تتصدّر البلدان الأكثر سعادة للعام السابع على التوالي؟
إدريس إلبا… لا حدود للأحلام (رويترز)
«مدينة المستقبل» على جزيرة أفريقية… حلمُ إدريس إلبا وفاءً لأصوله
الرفقة المُلهِمة (أ.ف.ب)
محامٍ وكلبه يجمعان القمامة خلال ممارستهما الرياضة الصباحية
بيئة
دراسة: موجات الحر تتحرك أبطأ ما يتسبب بـ«عواقب وخيمة للسكان»
رش المياه في ميدان جيراردو باريوس في السلفادور للمساعدة في التخفيف من أثر ارتفاع درجات الحرارة (رويترز)
رش المياه في ميدان جيراردو باريوس في السلفادور للمساعدة في التخفيف من أثر ارتفاع درجات الحرارة (رويترز)

واشنطن: «الشرق الأوسط»

نُشر: 16:10-30 مارس 2024 م ـ 20 رَمضان 1445 هـ
TT
20

تميل موجات الحر أكثر فأكثر إلى البقاء فوق المنطقة نفسها، ما يفاقم خطورتها، بحسب دراسة جديدة نشرت، أمس الجمعة، لاحظت أن سبب هذه الظاهرة يكمن في التغيّر المناخي.

وركزت الأبحاث السابقة على تواتر موجات الحرارة وشدتها، إلا أن قلة منها قبل اليوم تناولت انتشارها المكاني والزماني.

وأوضح وي تشانغ، أحد معدّي الدراسة التي نشرتها مجلة «ساينس أدفانسز»، في تصريح لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، أن موجات الحر تتحرك كغيرها من ظواهر الطقس ومنها العواصف.

ولاحظ أن موجات الحر باتت في العقود الأخيرة تميل إلى «التحرك بسرعة أقل فأقل»، أي إنها «يمكن أن تبقى في منطقة ما لمدة أطول»، ما يسبب «عواقب وخيمة للسكان».

وأجرى الباحثون تحليلاً لموجات الحرارة على مستوى العالم خلال الحقبة الممتدة من 1979 إلى 2020، باستخدام نماذج تعتمد خصوصاً على الرصد بواسطة رادارات الطقس والأقمار الصناعي

المدونات
ما هو الاتجاه الجديد

المدونات ذات الصلة

الاشتراك في النشرة الإخبارية

احصل على آخر الأخبار والتحديثات

النشرة الإخبارية BG