مع الثورة التكنولوجية التي دخلت جميع مفاصل حياتنا من أكبر الأمور حتى أصغرها، ومع حلول الآلة والتكنولوجيا بدلاً من الإنسان في كثير من الأماكن، كان من الضروري السؤال: ما هو دور التكنولوجيا في الإبداع البشري؟ وهل ستندثر هذه الميزة الإنسانية بفعل استحواذ التكنولوجيا وتقديمها برامج ابتكارية وإبداعية قد تحدّ من العملية الطبيعية الخلاقة لدى الإنسان؟ وما هي السبل لتعزيز الإبداع البشري عبر التكنولوجيا؟ خبراء يجيبون “النهار العربي” عن هذه الأسئلة.
كلّنا لدينا إمكانية الوصول إلى الأفكار، ويمكن أن نكون أكثر إبداعاً في العالم الافتراضي حيث وفرة لا نهائية للمعرفة. والتكنولوجيا لم تقضِ على الإبداع، لا بل على العكس عزّزته، فتداخل العلوم في ما بينها اليوم بواسطة التكنولوجيات التي باتت تربط هذه العلوم في ما بينها، أفرزت منتوجاً إبداعياً جديداً. وهنا لا نتحدث فقط عن الهواتف الذكية، بل عن جميع الوسائل والآلات، سواء في الاتصالات أو في الميدان العسكري، أو وسائل النقل، وغيرها. ويؤكّد في هذا الإطار، د. وسيم جابر، باحث في الفيزياء وتكنولوجيا النانو ومتخصص في الذكاء الاصطناعي، أنّه ما دام التطوّر التكنولوجي مستمرّاً، سنشهد أجيالاً أكثر إبداعاً وإنتاجية وهذا أمر ثابت.
وفي تفاصيل حديثه، يشرح أنّ على الإنسان المرور بمراحل عدة كي يصل إلى الإبداع. فالعملية الإبداعية قائمة على مبدأ المعرفة والإلمام بالمشكلة المرجو حلّها، ولا يمكن أن يكون هناك إبداع من دون وجود مشكلة. وهناك أمر أساسي في هذه العملية، وهو نية الإنسان للوصول إلى المعرفة، فكلّ عمل إبداعي وراءه هدف. وزيادة المعرفة عبر التكنولوجيا تصبّ في خدمة العلوم كلها، ما يثري حياة الناس الثقافية، وبالتالي، كلّما ارتفع منسوب الثقافة لديهم، كلّما زاد حجم صندوق الأدوات الإبداعية، وبالمحصلة التميّز الإبداعي. وبعد ذلك، يأتي الجمع ما بين العلوم المعرفية التي تقودها التكنولوجيا بالتحديد، وتؤدي إلى علوم إبداعية وأفكار جديدة.
وعن إمكانية منافسة الذكاء الاصطناعي للإبداع البشري، يجيب جابر أنّ كل البرمجيات الناشئة عن هذا الذكاء هي من خلال الفكر الإبداعي للإنسان، لكن يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتميّز عندما يدمج برمجيات عهدة تنتج ما هو أكبر ممّا كان يرسم له الإنسان. لكن مهما علت قدرات الذكاء الصناعي، يبقى العقل البشري هو المسيطر عليها حتماً، فما دام عقل الإنسان موجوداً سيبقى مطوِّراً ومبدعاً.
والمعرفة التكنولوجية، وفق الباحث، تساهم مساهمة كبيرة في الإبداع، ففهم الأدوات التكنولوجية المُتاحة، يؤدي طبعاً إلى تطوير الأفكار والحلول، وبالتالي الإبداع. لذلك، الاستخدام السليم للتكنولوجيا يساهم في الإبداع عبر التكنولوجيا، وهو كصيد السمكة من البحر.
ويدحض جابر فكرة أنّ التكنولوجيا حدّت من الإبداع البشري، “فلو كان ذلك صحيحاً، لما وصلنا اليوم إلى الفضاء”. وقد طال الإبداع المعزّز بالتكنولوجيا قطاعات عديدة، بدءًا بالإبداعات الفنية عبر برامج تحرير الصور والفيديو وما شاكل، مروراً بقطاع الاتصالات الذي وصل اليوم إلى الجيل السادس منه في اليابان وتطوير سرعة اتصال خيالية في تقنيات الجيل الخامس من الاتصالات، وحتى في مجال التعليم الذي أصبح عن بُعد، فهذا بحدّ ذاته إبداع، بالإضافة إلى القطاع الطبي مع الروبوتات حيث تُجرى عمليات بفارق زمني 0 بين الروبوت والطبيب، وكذلك الصواريخ البالستية التي تُدار عبر التحديد الجغرافي بوقت 0 أيضاً، وبذلك أبدع الإنسان تكنولوجياً، ووصل لمكان 0 على أي مسافة.
لذا، التكنولوجيا المتطورة ستحتاج عام 2025 إلى 25 مليون شخص يعملون في مجال الذكاء الاصطناعي، بينما اليوم لا يصل عددهم إلى مئة ألف.
التكنولوجيا في خدمة الإبداع البشري
التكنولوجيا سهّلت الكثير وعزّزت الإبداع. ولم يعد الشخص يرتكز على تخصّصه فقط، بل على الخبرة التي يحظى بها وعلى التكنولوجيا التي تساعده. فاليوم هناك أشخاص متخصّصون في قطاع الفنادق يستفيدون في تكنولوجيا المعلومات، فطريقة التعامل مع التكنولوجيا أصبحت صديقة جداً، وسهّلت عليهم أن يتطوّروا. مثلاً اليوم في قطاع المأكول والمشروب، هندسة لائحة الطعام، وهي بدعة تكنولوجية وليست مرتبطة بالمأكول، تعني أنّه بات الشخص قادراً على تقليص الكلفة، فهذه التكنولوجيا التي توفّر له الإحصائيات عن العمل، تقلّص من كلفة العمل كثيراً وتحسّن نوعيته وتدلّ صاحبه على الأخطاء. ومثلاً في الطب، وفي موضوع وباء كورونا، ركّبت شركة “هواوي” الذكاء الصناعي في مستشفى الحريري الحكومي، ما سهّل على الأطباء كشف الإصابات بكورونا سريعاً جداً.
ويشرح رئيس نقابة المعلوماتية والتكنولوجيا في لبنان ومهندس الكمبيوتر والاتصالات، جورج خويري، أنّ الذكاء الاصطناعي لا ينافس الإبداع البشري أبداً، لا بل بالعكس، هو يسهّله. ففي إطار تحليل أي مشكلة، يساعد الذكاء الاصطناعي في تقليص عدد أخطاء هذا التحليل لأنّه يستبق النتائج، ويسرّع الإبداع لدى الشخص ويطوّره. لذا، طريقة استخدام التكنولوجيا هي التي تؤثّر، فكلّما عرف المستخدم كيف يستفيد منها، كلّما أبدع أكثر.
ويعطي خويري مثالاً على ذلك، أنّه لدى ابتكار سيارة، يمكن للشخص معرفة الأخطاء الناتجة خلال الصناعة عبر الذكاء الاصطناعي، ويمكن تجنّبها، وهنا يذهب الشخص إلى الكمال بمساعدة التكنولوجيا، لكنّ المهم هو عدم الاتكال على التكنولوجيا، فذلك يقلّل من فرص الإبداع. والقيمة المضافة التي يضيفها المستخدم على التقنيات التكنولوجيا، تتجلّى باستخدامه لحسناتها، لكن الأساس هو الإنسان ووجوده وعقله وابتكاره وقوته، ومهما تقدّمت التكنولوجيا، تبقى عاملاً مسهلاً له.
لكن، كيف يمكن للمستخدم تعزيز إبداعه عبر التكنولوجيا؟
يجيب خويري أنّ هناك سبيلين هما الأهمّ للإبداع: استخدام الذكاء الصناعي، والإحصاءات. فالتكنولوجيا تسرّع الوصول للهدف مرات مضاعفة، وأصبح هامش الخطأ عبرها 0.01 % وهو رقم خيالي، لأنّ هناك عوامل تلعب دوراً في هذا المجال مثل إدخال البيانات والإحصاءات التي تقوم بها البرامج وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج الإبداع إلى معرفة وتثقيف تكنولوجي، فعام 2000، أقرّوا أنّ مَن لا يجيد استخدام الحاسوب هو غير مثقّف، واليوم نحن بحاجة إلى التكنولوجيا في جميع الأصعدة والمجالات وفي أصغر الأمور، فهي أساس لكل النشاطات ولا يمكن الإبداع من دونها ومن دون استخدام أدواتها.
وبرأيه، المنطق الذي يتعلّمه الإنسان في الجامعة والمدرسة ومن العالم خارج الحاسوب، يجعله يأمر الحاسوب، ومن دونه لا يمكن أن يتطوّر ويبدع. وبالتالي، التكنولوجيا لا تلغي أي قطاع إبداعي وكلٌّ له دوره، فالمهن اليدوية الإبداعية تطوّرت وتحسّنت مع التطوّر التكنولوجي