كل فكرة جديدة لابد لها من جذور قديمة، سؤال أخذ يطرح نفسه على الجميع بمختلف العصور، هل الفلسفة ابتكار يوناني أصيل، أم فكر شرقي قديم؟ و قد اختلفت الآراء حول الإجابة إلى فريقين، فريق يقول بنظرية الأصل الشرقي في الحضارة اليونانية، و فريق يقول أن الفلسفة يونانية المنشأ، و يستدل الفريق الأول ببعض الأدلة فيقول:1_ أن اليونان أنفسهم كانوا يتكلمون بأكبر الاحترام عن العلم و الحضارة الشرقية، فقد كان ارسطو يقول: ” إن العلوم الرياضية قد نشأت في أرض مصر”.

 

 

٢_ كما أنهم يستدلون ايضاً بدليل آخر و هو أن الفلسفة اليونانية نشأت نتيجة اختلاط اليونان بالحضارات الشرقية القديمة، و ذلك لأن “أيونيا” تقع على حدود آسيا الصغرى، و بذلك كان هناك اختلاط بين اليونان و الشعوب الشرقية القديمة.

 

و الحقيقة أن الحضارات الشرقية القديمة قد سجلت مجداً فكرياً عظيماً و كان لها الأثر الكبير في فلسفة اليونان، ربما كان لليونان استقلال كبير في فلسفتهم، في تمسكهم بالمنهج العقلي الدقيق و البرهان المنطقي العميق، إلا أننا لا نستطيع إنكار مدى تأثر اليونان بحضارات الشرق القديم، مثلاً على سبيل المثال، الحضارة المصرية القديمة كانت من أقدم الحضارات و أعرقها و أكثرها أثر في تاريخ الحضارات على مر العصور، فهي تمتاز بدخولها و شمولها جميع مجالات الحياة، إذاً الذي نود قوله هنا أن هناك تأثر و تأثير و هذه حقيقة لا مناص عنها، فقد أخذ اليونان في فلسفتهم أمور كثيرة عن الشرق القديم، و نحن أخذنا عن اليونان الكثير من فلسفتهم، فإننا لو تركنا أنفسنا نتأمل و لو قليلًا في تاريخ حضارات الشرق القديم، سواء كانت الحضارة الهندية او الفارسية او الصينية او الفرعونية لوجدنا كثيراً من مقومات هذه الحضارات لها وجوه شبه في مقومات الحضارة الإغريقية، و ذلك لأن العقل الإنساني يبقى هو هو على مر العصور، و قد استخدمته الأمم الشرقية قديماً و صنعت الحضارات ثم لقنت ما توصلت إليه إلى اليونان، فإنك تجد عند الأمم الشرقية القديمة قصص دينية و أفكار عن العالم و الحياة موضوعها الحقيقي لا يخرج عن فلسفة اليونان مثل: الوجود و التغيير و المصير و الخير و الشر و وحدة الوجود و غيرها الكثير، و بذلك يمكن القول أن أصحاب هذا الرأي يقولون أن كل فكرة يونانية لها مثلها في الفكر الشرقي القديم، و أننا نرى أن هذا الرأي يميل بدرجة كبيرة إلى الصواب.

 

 

banner

 

أما الرأي الآخر الذي يقول أن الفلسفة ابتكار يوناني، فهو يرى أن الفكر الشرقي قد عالج أمور علمية و لم يكن له علم بالفلسفة، و أن أساس من قدم للعالم الفلسفة الحقة هم اليونان، فيمكن القول على البابليين و المصريين أنهم جهلوا الفلسفة، بالرغم مما بلغ إليه علماؤهم من ثقافة عالية، و لم يحصلوا فيما يلوح سوى معارف عامة جداً و مختلطة بالدين في الألوهية و النفس و العالم الآخر، قد عالجوها بالبداهة دون الاستدلال العقلي، و قد زاول الفرس و الهنود النظر العقلي المجرد إلى حد بعيد، لكنهم قصروا مهمة هذا النظر على تمحيص الدين و إصلاحه، فقد كان قصدهم الأول النجاة من الشر فلم يتخذوا العلم غاية بل وسيلة، فكأنه كان مكتوب لليونان أن يعبروا في وقت من الأوقات الهوة الفاصلة بين التجربة و العلم بمعناه الصحيح و يضعوا الفلسفة علماً كاملاً قائماً بذاته.

 

 

ذلك إن القول الصحيح لدينا ألا نجزم بأي قول من هذه الأقوال، فإن الشرق القديم لم يُلقن اليونان الفلسفة، بل جعلهم يفكرون بشكل علمي و يعالجون الأمور بطريقة عقلية لم يسبق إليها أحد من قبل، و هذا ايضاً لا يجعلنا نقول بأن اليونان لم تأخذ من الشرق القديم، و ذلك لأننا لا نستطيع إنكار مفهوم التأثر و التأثير ، و أنه و لابد أن اليونان قد تأثرت بأمور كثيرة في الفكر الشرقي القديم، صحيح أن اليونان كانت صاحبة منهج عقلي منطقي لم يسبق له أحد، لكن ربما تأثرت بأفكار الشرق و قدمت لنا مناهج و مذاهب مختلفة عن غيرها، قدمت فلسفة و آراء فلسفية جديرة بالاحترام و التقدير.

 

و إلى هنا نصل لنهاية مقالنا اليوم، و إلى لقاء آخر بمشيئة الله.

 

 

 

المصادر والمراجع:

 

 

1_ تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، لجنة التأليف للنشر، الطبعة الثانية، ١٣٦٥هجرياً، ١٩٤٦م.

 

 

٢_ الفلسفة القديمة من الفكر الشرقي إلى الفلسفة اليونانية، دكتور حربي عباس عطيتو، دار المعرفة الجامعية، ١٩٩٩م.

المدونات
ما هو الاتجاه الجديد

المدونات ذات الصلة

الاشتراك في النشرة الإخبارية

احصل على آخر الأخبار والتحديثات

النشرة الإخبارية BG