د بدأ القول في مسألة خلق القرآن نتيجة الخلاف في صفة الكلام كما أشرت إلى ذلك في المقدمة، فجاءت الأقوال في صفة الكلام كالآتي:
قالت المعتزلة:ان الكلام هو ما انتظم من حروف مسموعة متفق على استعمالها في المعاني لإيصال المعنى بين الناس، أما الله عندما يريد الكلام يخلق أصوات معينة في أجسام معينة ليدل من خلالها على ما يريده،أما الكلام الذي هو حرف و صوت لا يكون لله حتى لا نصف الله بصفات الأجسام.
قالت الاشاعرة قولان:أحدهما: الكلام هو اسم للمعنى المدلول عليه باللفظ، اي أن الكلام هو كلام نفسي لا يُسمع إنما هو قائم بذات الله، و إطلاق الكلام على الألفاظ قول مجازي، إنما الحقيقة هو إطلاقه على المعنى.
أما الفرقة الأخرى من الأشاعرة قالت: الكلام هو اسم للمعنى و اللفظ بطريق الاشتراك ، و في ذلك يقول الرازي: “إعلم أن لفظة الكلام عند المحققين _منا_ تقال بالاشتراك على المعنى القائم بالنفس، و على الأصوات المتقطعة المسموعة”
أما أهل السنة و الجمهور قالوا:الكلام اسم للفظ و المعنى بطريق العموم،فالكلام هو مجموع الأصوات و الحروف المسموعة مع المعنى على العموم، أما عند التقييد ربما يراد به اللفظ و ربما يراد به المعنى.
و نتيجة هذا الخلاف الذي حاولنا أن نختصره قدر الإمكان في صفة الكلام، نشأ القول بمسألة خلق القرآن، و قد ذهبت المعتزلة إلى:
القول بخلق القرآن و ذلك لأنها نفت صفة الكلام عن الله،و قد قالت عندما يريد الله أن يتكلم يخلق كلامه في بعض الجماد و من خلاله يصل ما يريد،و طبعاً وجهة نظر المعتزلة عقلية محضة فقد قالوا بذلك من أجل تنزيه الله عن صفات الحوادث.
بينما قالت الأشاعرة بقول ليس في قوة صراحة المعتزلة، لكن يُفهم منه القول بخلق القرآن، و ذلك لأنهم لم ينفوا صفة الكلام، بل قالوا كلام الله نفسي،أما القرآن و لفظه فقد خلقه الله في جبريل عليه السلام، و في ذلك يقول القرافي: “و لفظ القرآن كله مخلوق في جبريل عليه السلام عند الأشاعرة”
بينما ذهب الجمهور و أهل السنة إلى القول بعدم خلق القرآن و ذلك لأنهم قالوا أن كلام الله صوت و حرف،فالقرآن عندهم من الله و لم يخلقه في شيء، و هذا هو الصحيح و المتفق عليه.
banner
محنة الإمام أحمد بن حنبل:
لا يفوتنا بعد أن عرضنا لك مسألة خلق القرآن أن نشير إلى محنة كبيرة أصابت إمام و عالم و فقيه كبير ذو شأن عظيم،ألا و هو “الإمام أحمد”، فقد ظهرت فتنة القول بخلق القرآن في عصر إلامام أبو حنيفة، ألا أنها سريعاً ما هدأت و لم يكثر فيها القول،إلى أن جاء عهد الخليفة المأمون الذي كان شديد الإقتناع بما تقوله المعتزلة من القول بخلق القرآن، و قد أرغم الخليفة المأمون الجميع بالقول بخلق القرآن و كان من بينهم “الإمام أحمد بن حنبل” الذي رفض القول بخلق القرآن و في مقابل ذلك قد تم إيذاء الإمام إيذاء شديد، و عرفت محنته بمحنة الإمام أحمد،و أصبح حديث الناس في مجالسهم ،كما أنه أصبح لا يمكن لنا أن نذكر مسألة خلق القرآن دون أن نشير لمحنة الإمام أحمد المتعلقة بتلك المسألة، و قد ظلت هذه الفتنة “القول بخلق القرآن” في عهد المأمون و المعتصم و الواثق،إلى أن جاء المتوكل و قد أوقفها بالقول بعدم صحة مسالة خلق القرآن، و قد صرح بأن القرآن ليس مخلوق كما كانت تقول المعتزلة، و هنا هدأت الأمور و استقرت الأوضاع.
و إلى هنا نصل لنهاية مقالنا اليوم، و إلى لقاء آخر و تدوينة أخرى بمشيئة الله.
المصادر و المراجع:
مسالة خلق القرآن و أثرها في صفوف الرواة و المحدثين و كتب الجرح و التعديل، عبدالفتاح أبو عدة،بيروت، 1391هجرياً.
مسألة خلق القرآن و موقف علماء القيروان منها،أ.د.فهد بن عبدالرحمن سليمان الرومي،مكتبة التوبة،الطبعة1، 1997م،1417هجرياً.