ا،نحن العرب،نعيش اليوم أزمة العقل. وإشكالنا القومي مرتبط بعمق بهذه الأزمةالخانقة.وهذايدعوناإلى استقصاءمعنى العقل وتعبيراته الحضاريةالمتنوعة.
إننانبدأمن حقيقةأن العقل ملكةبشرية،فاعليةبشرية، قدرةبشرية،أداة بشرية. لكن هذالايعني أن العقل هومجردسمة من سمات الفرد البشري. إنه ليس مجرد قدرة فردية. فالإنسان ليس مجرد كومة من الأفراد.كلا! إنه أيضاً بنيةاجتماعية، تاريخ،مؤسسات،جماعات،طبقات،أمم. من ثم، فإن العقل هوأيضاًحضوراجتماعي،حضورتاريخي،حضور ثقافي، حضورمؤسسي. فهو يتمظهرفي الطرائق التي يفكربها الناس، في أنساق تفكيرهم،في طرائق تنظيمهم حياتهم، في أنساق هذه الطرائق، في الأدب، في الفلسفة، في العلم، في الفن، في البناء، في الدين، في التربية والتعليم، في الإعلام،في طرائق الترفيه، في العادات، في المعتقدات. إنه ظاهرة ثقافية بامتياز ونتاج ثقافي بامتياز.
ما جوهر العقل؟
إن جوهرالعقل هوالربط والتأسيس والتفكيك والتحليل والتركيب والهدم والبناء غيرالمحدودة-ربط الظاهرات والأفكار ببعضها بعضاً وتأسيسها المتواصل. فهو يربطهامعاًويؤسسها ليس أفقياً حسب، وإنما عمودياً أيضاً. فهو يقيم ويميز دوماً،ويضفي درجات متنوعة من الفاعلية والمدلول للأفكاروللظاهرات. هكذاتؤسسها. وهذه العمليةلانهايةلهاولا حدود. لذلك يعمدالعقل إلى تأكيدالعلية والمنطق والترتيب والنظام والمنهج. فلاشيءيفلت من نظرته الثاقبةالخارقة. والعقل لا يمكن أن يبقى في ظل قيود خارجية عليه. فلايحكمه سوى صوره وآلياته وبناه الداخلية. ولا يعترف العقل إلا بسلطة واحدة– سلطته الذاتية.
وبالمقارنة، فإننا نطرح مفهوم اللاعقل. وهوأيضا كيان ثقافي تاريخي. وهوفي جوهره الدوغما. إذإنه يضفي القيمة والقدرة على كيانات خارج العقل. وهذه الكيانات تؤسِّس ولاتؤسَّس،تَربط ولا تُربط، تؤثرولاتتأثر، تولدولا تتولد. وهي تولد العقل ملحقاًبها،ويتقيد العقل بقيودها الخارجية.إنها مسلمات مطلقة وثابتة وأبدية للعقل ولغيره. من ثم، فهي خارج العقل وفوقه وأساسه.إنهاسلطة فوقه وتحاصره من كل جانب. وهي عادة من طينة المشيئة المطلقة اللاعقلية المزاجية. لذلك نرى اللاعقل ينزع إلى تأكيد الإرادة والمزاج على حساب العقل. ويميل إلى نفي العلية والمنطق والتفسير،ويعمد دوماًإلى إيقاف الربط والتأسيس والتفسير عند حد معين اختياري. ونراه يلجأ إلى تعظيم الإعجازوالخوارق والمزاجيات.
ويمكن القول إن جانباً مهماً من التاريخ الثقافي يفهم بدلالة الصراع المتنوع والمتواصل بين العقل واللاعقل. ويمكن القول أيضاً إن جميع الحضارات،على الأقل في الألفيات الثلاث الأخيرة،شهدت صراعاً من هذا الصنف، بما في ذلك الحضارةالعربية الإسلامية. ففي الحضارةالعربيةالإسلامية،ازدهر العقل في القرون الهجرية الخمسة الأولى،لكنه سرعان ماتقهقرأمام اللاعقل وتراجع وحوصر،حتى صفي تماماً في العصورالوسطى المتأخرة.
ومن سوء الطالع أن جميع محاولات إعادة بناء العقل في حضارتنا واستئناف مسيرته وإحيائه في القرنين الأخيرين باءت بالفشل وتكسرت على صخرة اللاعقل المتكلسة. فما زال اللاعقل المقدّس مهيمناً منذ العصور الوسطى المتأخرة وحتى الآن. وقد عمد هذا الجمود الثقافي المريع إلى خنق كل محاولات الانعتاق والتحرر والنهوض والاستقلال.