هذه قضية القضايا وأهم المحاور التي يرتكز عليها المستقبل، كما أنها الشغل الشاغل لمعظم الباحثين المعنيين بدراسة المستقبليات واستشراف خطوات البشرية القادمة نحو الغد، وهم يدركون عن يقين أننا أمام تحول ضخم يفوق عشرات المرات آثار الثورة الصناعية وتداعياتها، كما يعلو كثيراً على المراحل التقليدية في تطور الآلة والانتقال من مرحلة إلى مرحلة بدءاً من اختراع العجلة مروراً بالمرحلة البخارية في توليد الطاقة، وصولا ًإلى عصر الكهرباء، ثم قفزاً إلى العصر الذري باستخداماته النووية وتعاملاته التي خرجت عن الإطار التقليدي ووضعتنا أمام عصر “الروبوت” والذكاء الاصطناعي وغيرهما من المنجزات المذهلة التي تبشر بها كتابات المتخصصين في دراسات التطور وأبحاث التقدم التكنولوجي الكاسح الذي لم يترك رافداً من روافد الحياة إلا وأصبح طرفاً فيه، والأمر يدعونا – والحال كذلك – إلى رصد الظواهر المرتبطة بالانقلاب العصري الضخم في أدوات التغيير وآليات التطور، ونطرح هنا عدداً من الملاحظات المرتبطة بما نتحدث عنه وأهمها:
أولاً: إن الذين يقيسون النقلة النوعية الجديدة في اتجاه التكنولوجيا المتقدمة بغيرها من المراحل السابقة إنما يقعون في خطأ كبير، لأن النقلة النوعية هذه المرة تقتضي أدوات مختلفة وآليات جديدة، فهي تقوم على حسابات عصرية لم تكن مطروحة من قبل، كما أن هذه النقلة التكنولوجية يصاحبها بالضرورة تحول ثقافي وتغير اجتماعي يجعلان البشرية أمام تحديات جديدة ومواقف مختلفة، فليست المسألة هي كما كان الانتقال من عصر البخار إلى عصر الكهرباء – على سبيل المثال – ولكن الأمر في حالتنا الجديدة يستوعب علوماً لم تكن معروفة من قبل وطرائق للتفكير لم تكن متاحة منذ عقود قليلة، إننا أمام عقل مختلف تماماً وفكر جديد لم يتم تعاطيه من قبل أو تداول مفرداته في الماضي، لهذا كله فإننا نظن عن يقين أن الذين يشغلون وظائف قيادية في إدارة الشركات عابرة القارات قد فقدوا الثقة في استمرار مواقعهم لأن المقاعد تهتز من تحتهم حيث الفكر الإداري الحديث لا يستوعب بعض الأفكار القديمة، كما قد يأتي بأفكار لم تكن مطروحة.
ثانياً: لقد شهدت أخيراً لقاءً بين رئيس الدولة المصرية ونخبة متميزة من العلماء والمفكرين من مختلف دول العالم وطرح الرئيس المصري قضية تستحق التأمل وتستوجب الدراسة، وأعني بها تأثر اللغات الحية خلال عقود قليلة مقبلة بتكنولوجيا الكمبيوتر ولغة الإنترنت، وعبّر الرئيس السيسي عن ضرورة دراسة الاحتمالات المقبلة على نطاق واسع، لأن أبجدية اللغات الحية قد تتأثر هي الأخرى بالتحولات الجديدة فتختفي كلمات، بل ولهجات نتيجة التغيير الكاسح الذي لا تصمد أمامه معظم اللغات السائدة، وعلينا أن نوطن النفس على استقبال المفاجآت التكنولوجية والأساليب المعاصرة للتعليم فهو مفتاح التنمية.
ثالثاً: دعنا نعترف أن الأجيال الجديدة تختلف عن أجيالنا كثيراً، وأن لكل جيل خصائصه وأفكاره، بل ورموزه ونجومه أيضاً، لذلك فإن الوصاية من جيل على أجيال تأتي بعده، إنما هي محاولة فاشلة لقمع حرية العقول الجديدة في الانتقال نحو آفاق مختلفة، ربما لم تكن مطروحة أمام أجيالنا، لذلك فإنني ممن يميلون إلى ضرورة التوقف عن جلد الذات، وفتح الأبواب والنوافذ أمام الشباب للانطلاق نحو غد سوف يعيش هو فيه، وقد لا نكون نحن طرفاً في ذلك المستقبل المتجدد، ولقد صدق الإمام علي رضي الله عنه عندما دعا إلى إطلاق الحرية المحسوبة لأجيالنا وهو القائل “ربوا أولادكم لغير زمانكم”، تأكيدًا منه أن الأجيال الجديدة سوف تعيش في ظل منظومة مختلفة وبيئة ثقافية ومناخ فكري ربما يكون غير مسبوق في تاريخ البشرية، إننا نواجه تحديات لم تكن مطروحة من قبل منها مسائل تتصل بالتغير المناخي وتلوث التربة ونقص الطاقة وندرة المياه، وكلها تحديات تكاد تهدد مسيرة الجنس البشري، ولا يجب أخذها ببساطة كما تفعل الحكومات حالياً، ولعلنا نتذكر أن الرئيس الأميركي ترامب قد أخرج بلاده من الاتفاقية الدولية لتغير المناخ، وذلك يعني أن هناك من لا يقدرون المسئولية الحقيقية لطبيعة المواجهة التي تتنظرنا بعد عقود قليلة، ونحن لا ننسى أيضاً أن “نحر البحر” يلتهم كل عام مساحة من اليابسة رغم كل الجهود المبذولة لمواجهة ذلك الخطر المقبل، كما أن ارتفاع درجات الحرارة قد يؤدي إلى ارتفاع مماثل في حركة المد والجزر للبحار الكبرى إلى حد أن البعض قد تصور أن دلتا النيل في مصر معرضة للغرق.
رابعاً: لقد توهمت شخصياً أن التقدم الكاسح وغير المسبوق في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة وشيوع أجهزة المحمول في يد المليارات من البشر سوف يكون سبباً في هدوء حركة المواصلات، لأن تقدم الاتصالات يصاحبه بالضرورة تراجع في زحام المواصلات، ولكن ذلك لم يحدث أيضاً، وأذكر أنني وجهت سؤالاً لرئيس وزراء مصر الأسبق د.أحمد نظيف، وهو خبير اتصالات دولي، عن هذه النقطة تحديداً وكان وقتها وزيراً للاتصالات في الحكومة المصرية، وأجابني بلا تردد إن الظواهر الجديدة لا يمكن الحكم عليها من مجرد الملاحظة، بل إن الأمر يحتاج إلى تثبيت بعض العوامل ودراسة العوامل الأخرى لمعرفة تأثير الظاهرة الجديدة، وأشار في هذا السياق إلى عامل النمو السكاني المتحرك والذي لا يسمح بتحقيق نتائج دقيقة وملموسة في إطار ما نراه، ولكنني أزعم أن الحياة الاجتماعية قد تغيرت، وأن المجتمعات البشرية قد أصابها تحول واضح، وأصبح كل شاب أو فتاة يجلس وحيداً أمام شاشة صغيرة يتحدث فيها ويستقبل منها منعزلاً عن محيطه متوقفاً عن الحوار حتى مع أبويه وأشقائه، إن التكنولوجيا الحديثة قد ضربت العلاقات الاجتماعية في مقتل، وربما أدت إلى نوع من التفكك الأسري، بل واختفاء عادات كانت مستقرة مثل الزيارات العائلية والانتقالات الموسمية والحوارات داخل الجيل الواحد وهذه نقطة لا يجب الاستهانة بها لأن التحول الاجتماعي المصاحب للتغير التكنولوجي هو (مربط الفرس) فيما نذهب إليه ونحاول تفسيره.
خامساً: نستطيع أن نؤكد أننا قد دخلنا عصر (المواطن العالمي) أي ذلك الذي يعتبر وحدة في المجتمع الإنساني كله قفزاً على حواجز الجنسيات والديانات واختلاف اللغات وتنوع القوميات حتى أن القانون الدولي المعاصر قد أصبح يسمح للمواطن العادي في دولة معينة بأن يقاضي حكومته أو حكومة دولة أخرى أمام القضاء الدولي طلباً للإنصاف، وذلك اعتراف بأن الإنسان قد أصبح وحدة عالمية، ولم يعد هناك مبرر للاختلافات الوهمية بين الأجيال الواحدة من مختلف الدول، وقد أسقط فكر العولمة الحواجز وسمح بانسياب الأفكار والسلع والخدمات، ولكن بقيت فقط عقبة تتصل بحرية الانتقال نتيجة القيود الكبيرة على تأشيرات الدخول وسياسات الحد من الهجرة خصوصاً تلك القادمة من دول الجنوب إلى دول الشمال، فالغرب انتقائي بطبيعته يبحث عما يريد فقط حماية لمصالحه دون النظر لمبادئ الإنسانية العامة، فهو الذي سمح لنفسه منذ عدة قرون بأن يسيطر على دول الجنوب بالظاهرة الاستعمارية، وها هو الآن يمنع الهجرة إلى الشمال بدوافع عنصرية تبدو واضحة للج