ن الخبرة الإنسانية تسبق العلوم، فالعلم يأتي كمدوِّن للخبرة ومستخلِص للقوانين الحاكمة للسلوك البشري، هكذا هو الاقتصاد، فالتجربة والسلوك الإنساني هي الأساس للوصول إلى الفهم السليم للاقتصاد الذي يجب أن يكون صوب تفكيرك عندما تقبل على اتخاذ قرار سليم.
—د. جاسم سلطان – خطواتك الأولى نحو فهم الاقتصاد
ربّما لم تكُن مادة «الاقتصاد» هي مادّتك المفضّلة في مرحلتك الثانوية، وربّما الجامعية أيضًا. يسهُل إدراك هذا الأمر بالنسبة للطلاب. ولكن مالا يسهل إدراكه، أن تكون طالبا أو موظفا أو رب أسرة، بلا وعي اقتصادي كبير يمكّنكَ من إدارة حياتك المادية وفهم منظوماتها بشكل سليم.
غالبًا، أنت ترى الاقتصاد عِلمًا كئيبًا بجدارة، خاصةً إذا كنت منتميًا إلى سياقٍ أكاديميّ عربيٍ، حيث الانفصال التام بين النظريات والرموز المبهمة والرسومات البيانية المعقدة، وبين الواقع التطبيقي، لدرجة تجعل العالِم في الاقتصاد يشعر بالغُربة عندما يجد نفسه في موقع تنفيذي. حسنًا، لستَ وحدك في هذا، الكثيرون منّا كذلك.
لذا، نحن لا نهتمّ هنا بالتعرّض لذلك النمط الكئيب من الاقتصاد، وإنما يهمّنا ذلك الاقتصاد السهل البسيط، الذي تُترجم مصطلحاته إلى لغة قريبةٍ من فهم الجميع. الاقتصاد الذي يتكلم عن القدر الواجب على الجميع إدراكه من المعرفة الاقتصادية للتعامل مع الواقع، ولمعرفة كيف تلبي احتياجاتك وتشبع رغباتك وتختار البديل المناسب. الاقتصاد الذي هو علم اجتماعي يحلل ويوصّف الإنتاج والتوزيع والاستهلاك والثروة. الاقتصاد الذي يجب أن نكون جميعًا على دراية به، بل ونكون قادرين على تحليل معطياته، ونفكر من خلاله كما لو كنا محللين اقتصاديين.
لن نتجاهل حقيقة أنّ الاقتصاد معقد إلى حد ما، وذلك لكونه مجالًا تفاعليًا بين الإنسان والمادة، والإنسان بتكوينه لا تنتهي حاجاته ورغباته، والموارد بطبيعتها نادرة أو مبدَّدة بسبب سلوك الإنسان الخاطئ، ومع كل هذه المعطيات الكثيرة يجب عليك أن تكون محللًا اقتصاديًا – بدرجة أو أخرى- لكي تتمكن من إدارة مصروفاتك بالطريقة المثلى، سواءً على مستواك الفردي، أو الأسري، أو المجتمعي، أو المؤسّسي، أو القومي.
القرارات والقوانين: أرضية الاقتصاد
في الدورة الاقتصادية، القرار الاقتصادي هو النقطة الأهم، سواء كان قرار المنتج أو المستهلك، البائع أو المشتري، أيا كان ففي النهاية هو قرار، إذا كنت ربًا لأسرتك فأسرتك تُعتبر فاعلًا اقتصاديًا، له موارد محددة ويتخذ قرارات الاستهلاك والادخار والاستثمار كفاعلٍ واحد، وهكذا الأمر تماما بالنسبة لباقي وحدات المجتمع سواء أشخاص أو أسر أو شركات أو حكومات.
المفاهيم الاقتصادية التي تراها معقدة وصعبة، ليست في حقيقتها كذلك، فأنت – بطبيعة الحال- تتعامل بها وتطبقها يوميا، وفي حال أقنعت نفسك بأنها معقدة، لن تدرك الواقع الاقتصادي.
الأمر برمته يعتمد على القرار السليم، لأن الهدف الحقيقي من علم الاقتصاد هو تحسين المستوى المعيشي للإنسان في العالم، لذا عليك بالقيام ببعض الخطوات لكي تفكر بشكل سليم، وأول هذه الخطوات هي معرفة أن المفاهيم الاقتصادية التي تراها معقدة وصعبة، ليست في حقيقتها كذلك، فأنت – بطبيعة الحال- تتعامل بها وتطبقها يوميا.
وفي حال أقنعت نفسك بأنها معقدة، لن تدرك الواقع الاقتصادي، ولن تعرف ماذا يقول هذا الخبر بالجريدة الاقتصادية أو ذلك البرنامج التلفزيوني المُتخصص، وبماذا يؤثّر عليك. مفهوم وها قد رأيتَ كيف أنّ مفهومًا مثل «القرار الاقتصادي» سهلٌ وبسيط، الأمر ذاته لابدّ ان تجده في بقية المفاهيم؛ سيساعدك كثيرًا هنا أن تطالع كتابًا على الأقل من هذه الكتب:
«دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي» لحازم الببلاوي، «فلسفة علم الاقتصاد» لجلال أمين، «الاقتصاد عارياً: عرض طريف ومشوق للمفاهيم الاقتصادية» لتشارلز ويلان وترجمة زينب حسن البشَّاري، «خطواتك الأولى نحو فهم الاقتصاد» لجاسم سلطان.
بعد هذه الخطوة، تأتي خطوة أخرى لا تقل أهمية، متعلقة بالقوانين الاقتصادية، التي هي مساعي علماء «الاقتصاد السياسي» لإظهار الصلات والعلاقات الثابتة والمتشابهة بين الوقائع أو الظواهر الاقتصادية، إذا تحققت لها شروط معينة للتحقّق، وصياغتها في صورة «قوانين اقتصادية» تعبّر عن جوهر العمليات أو الظواهر الاقتصادية التي تحدث في المجتمع، وتتمّ صياغة هذه القوانين بهدف تصنيف وتنظيم الوقائع الاقتصادية أولاً، ومن ثمّ إيجاد تفسير لأسباب وقوعها، وبالتالي القدرة على التنبؤ بما سينتج عنها.
إذًا، لكي تصبح محللًا اقتصاديًا ناجحًا، ولديك قدرة على تصنيف الوقائع الاقتصادية، وأسبابها، والتنبؤ بالتوقعات المستقبلية، لابد أن يكون لديك وعي لا بأس به بالقوانين الاقتصادية، مع ملاحظة “النسبية” في تلك القوانين، وتغيرها بتغير الزمان والمكان، فرغم أن هناك العديد من القوانين الاقتصادية العامة الراسخة والمؤكد صحتها، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن نقول بأن علم الاقتصاد هو كباقي العلوم الطبيعية والفيزيائية من حيث دقة القوانين وقدرتها على تفسير الظواهر باطّراد، فليست كل القوانين الاقتصادية تتصف بالعمومية والصحة المطلقة، فقد يصلح قانون لتفسير ظاهرة اقتصادية في دولة معينة، ولا يصلح لتفسير نفس الظاهرة في دولة أخرى.
أبرز القوانين الاقتصادية التي يجدر بك الإلمام بها، قانون «العرض والطلب»، بأهم ملامحه: (الزيادة في الطلب تلحقها زيادة في السعر – النقص في الطلب تلحقها نقص في السعر – النقص في العرض تلحقها زيادة في السعر – الزيادة في العرض تلحقها نقص في السعر).
الخطوة الثالثة والأهم، والتي تجعلك ترى الأحداث الاقتصادية بعين تحليلية أقرب للواقع؛ هي أن تسأل عن سبب كل شيء ما أمكن. فقبل دفع الضرائب يجب أن تسأل لماذا ندفع الضرائب؟ لماذا هناك بطالة؟ ما هي الموازنة؟ والعجز؟ ما هي أسباب الفقر؟… قد تتخيلها أسئلة ساذجة، لكنها أساس علم الاقتصاد، فعندما تقرأ خبرًا ما على صحيفة اقتصادية لا تدع الخبر يمر مرور الكرام بل توقف وأسأل وستكتشف الكثير والكثير.
سؤال تلو سؤال، ستجد نفسك تسأل أسئلة أكبر، عن الديون والميزان التجاري وميزان المدفوعات، وأسعار الصرف والنمو والتنمية والدخل والعدالة.. إلخ، وفجأة ستجد نفسك تربط الأخبار والمعلومات بعضها ببعض لتكتشف الواقع الاقتصادي أكثر، كل هذه الأسئلة تحتاج المناقشة وتلزمنا أن ندرك قدرًا من المعرفة الاقتصادية التي تؤهلنا للقرار الاقتصادي السليم.
بهذه الخطوات الثلاث، يمكننا القول أنك اجتزت نصف الطريق لكي تصبح محللًا للواقع الاقتصادي الذي تعيشه، العام والخاص، أما فيما يتعلق بالنصف الثاني، فربما يكون عامًا بعض الشيء، ويرتكز على محوريين رئيسيين: الفكر والتحليل الاقتصاديين