والأشمل والتي تؤهل صاحبها للإجابة على هذا السؤال، ستكون حتما رؤية من كان عالما بمبادئ الاقتصاد وعالما بمبادئ الشريعة في آن واحد.
والعلوم الاجتماعية، وبوجه خاص علم الاقتصاد، لا يتناول “حقائق طبيعية” كما هو الحال فى العلوم الطبيعية مثل الفيزياء أو الكيمياء أوالبيولوجيا والتى تتعلق بظواهر طبيعية لا تختلف من عصر إلى عصر، ولكن الاقتصاد، وهو “علم اجتماعي” يتأثر بما لحق المجتمعات البشرية من تطور، كما أنه في تطوره هذا محكوم ببنية أخلاقية تمثل إطارا عاما لا يصح لهذا التطور أن يجاوز حدوده يمكن تسميته بالجانب المبدئي لعلم الاقتصاد. وبالتالي فإننا في ردنا على التساؤل المبدئي المطروح، يجب ألا نغفل عن الجانبين الأساسيين لعلم الاقتصاد وهما الجانب المبدئي الذي يمثل البنية الأخلاقية للنشاط الاقتصادي من حيث بواعث النشاط والهدف منه والقيم التي تحكمه، وكذلك الجانب الفني الذي يمثل الأدوات والمؤسسات والسياسات اللازمة للنشاط الاقتصادي.
ولا شك أن علم الاقتصاد قد تطور مع تطور أساليب الإنتاج، كما أن مفهوم “علم الاقتصاد” قد تغير بدءا من المجتمعات البدائية ومرورا بالرعوية ثم الزراعية ثم الصناعية، كذلك فإن البشرية قد انتقلت إلى مرحلة جديدة من التطور صاحبها أشكال إنتاجية جديدة، وأصبحت المجتمعات الصناعية تعيش على التغيير المستمر في شكل أدوات الإنتاج كما في الأذواق، وأصبح العنصر الحاكم للتقدم في عصر الصناعة هو رأس المال الإنتاجي، وبالتالي احتل موضوع “الاستثمار” مركز الصدارة في تقدم الأمم وأدى إلى تطور دور الدولة الاقتصادي، فظهرت “الأسواق المالية” التى توفر الأدوات المالية التى تسمح بتجميع المدخرات الهائلة ووضعها تحت تصرف المستثمرين، كما ظهر مفهوم “التفضيل الزمني” ووجد مقياس اقتصادي للتعبير عن قيمة الحاضر بالنسبة للمستقبل، وارتبط التعامل مع المستقبل ببروز مفهوم “المخاطر” ونظريات الاحتمالات وأهمية “المعلومات” ونظريات اتخاذ القرار.
ولكن هذا كله لا يتعلق بالجانب المبدئي لعلم الاقتصاد الذي يمثل البنية الأخلاقية للنشاط الاقتصادي، ولكنه يتعلق بالجانب الفني الذي يمثل الأدوات والمؤسسات والسياسات اللازمة للنشاط الاقتصادي. ومن الممكن بل من الواجب أن نقيِّم هذا التطور في ضوء البنية الأخلاقية للنشاط الإقتصادي التي جاءت بها شريعة الإسلام، لا أن نسلم بهذا التطور تسليما مطلقا، وقد قام روجيه جارودي بمثل هذا التقييم، من الناحية النظرية، حيث يقول في كتابه وعود الإسلام: “خلاصة القول إن الاقتصاد الناجم عن مباديء الإسلام هو على نقيض النموذج الغربي للنمو الذي يكون فيه الانتاج والاستهلاك معا غايات بذاتها: إنتاج متزايد أكثر فأكثر واستهلاك متزايد أسرع فأسرع، لأي شيء مفيد أو غير مفيد، ضار أو حتى قاتل دون النظر بعين الاعتبار إلى المقاصد الإنسانية، فالاقتصاد الإسلامي في مبدئه القرآني لا يستهدف النمو (على النمط الغربي) ولكنه يرمي إلى التوازن.”
ونعود مرة أخرى للتساؤل المبدئي: “هل هناك اقتصاد إسلامي معاصر؟”
يجب بداية أن نؤكد أن هذا التساؤل لا يعنى أننا نتساءل: “هل يصلح للعصر الحديث ما عرف من ترتيبات اقتصادية في ظل الدولة الإسلامية التي استمرت منذ القرن السابع وازدهرت منذ القرن التاسع، ثم بدأت في التراجع منذ القرن الثالث عشر؟” فالإجابة الوحيدة المؤكدة لهذا التساؤل هي النفي، لأن هذا التساؤل إنما يتعلق بالجانب الفني في علم الاقتصاد، وقد اتفقنا أن هذا الجانب متطور بطبعه، فاستجلاب أي ترتيبات اقتصادية عرفتها الدولة الإسلامية حتى وإن كانت في عصور الازدهار هو بالقطع لا يصلح. ولكن ذلك لا يستتبع بالضرورة أن إجابة التساؤل الأساسي هي النفي أيضا، بحيث نقول إنه لا وجود لما يسمى اقتصاد إسلامي معاصر، بل يوجد بالفعل اقتصاد إسلامي معاصر وهو لم ينشأ باستجلاب ترتيبات اقتصادية تاريخية، وإنما نشأ بابتكار ترتيبات اقتصادية حديثة وإن ظلت تلتزم بالإطار الأخلاقي الذي وضعه الإسلام للنشاط الاقتصادي.
ويرى البعض أن الجانب الأخلاقي للنشاط الاقتصادي في الإسلام، يتمثل فقط في بعض التعاليم التي تدعو إلى احترام المبادىء الضرورية للنجاح الاقتصادي، مثل (1) إعلاء قيمة العمل، (2) أهمية الصدق والأمانة فى المعاملات، (3) حرمة المال، (4) الوفاء بالعهود، (5) ضرورة كتابة وتوثيق التعهدات، وهذا كله صحيح ومن صميم تعاليم الإسلام الأخلاقية في النشاط الاقتصادي، لكن تلك المبادئ ليست هي كل المبادئ المتعلقة بالنشاط الاقتصادي التي تدعو إليها تعاليم الإسلام، فهناك من تعاليم الإسلام ما يدعو إلى مباديء ترتفع درجة عن أن تكون مبادئ أخلاقية مجردة لتمثل في ذات الوقت مبادئ اقتصادية مجردة مثل: (1) حظر الغرر (المخاطر الفائقة) في العقود، (2) حظر بيع الديون، (3) حظر أن يبيع الشخص ما لم يقبض (4) حظر الحصول على عائد دون تحمل مخاطر (الربا)، (5) حظر الاحتكار، وغير ذلك من المبادئ الاقتصادية العامة.
ويرتب البعض على هذا التساؤل الرئيسي تساؤلا آخر: “إذا كانت مبادئ وقيم الإسلام الأخلاقية تساعد على دعم أي نظام اقتصادي ناجح، فهل تتضمن تجربة الدولة الإسلامية من الأدوات والأساليب التى تسمح بالتعامل مع التطورات الاقتصادية المعاصرة؟” والرد على هذا التساؤل هو قطعا بالنفي، لأن التساؤل ببساطة يتعلق بالجانب الفني في علم الاقتصاد وهو جانب متطور بطبعه. غير أننا يجب أن نلاحظ أن مقدمة هذا التساؤل منبتة الصلة بالتساؤل ذاته، فمقدمة التساؤل تتعلق بالجانب المبدئي لعلم الاقتصاد الذي يمثل البنية الأخلاقية للنشاط الإقتصادي وهو الجانب الثابت في هذا النشاط، بينما التساؤل ذاته يتعلق بالجانب الفني المتطور لهذا النشاط. وبالتالي، فإن الإجابة بالنفي على هذا التساؤل تتعلق بالتساؤل ذاته، لا بمقدمة التساؤل، وبالتالي فإن عدم صلاحية الأدوات والأساليب التي وردت في تجربة الدولة الإسلامية للتعامل مع التطورات الاقتصادية المعاصرة، لا تعني عدم إمكانية الجمع بين هذا الجانب الأخلاقي الثابت للاقتصاد في الإسلام وبين الجزء المتطور منه، فهو أمر ممكن فضلا عن كونه واجبا.
وصحيح أنه ليس في التاريخ الإسلامي القديم ما يسمح بتوفير سوابق تاريخية للتعامل مع الأسواق المالية أو السياسات المالية والنقدية، أو مع مظاهر الاستثمار الحديث، ولكن أيا من ذلك لا يعنى أن التاريخ الإسلامي المعاصر غير قادر أو غير مؤهل، من الناحية النظرية، لابتكار وسائل حديثة، تختلف عن الوسائل التقليدية، لكنها تلتزم في نفس الوقت بالبنية الأخلاقية للنشاط الاقتصادي في الإسلام، للتعامل مع ذلك التطور الحادث في النشاط الاقتصادي وفي دور الدولة.
أما من الناحية العملية فقد قام علماء الاقتصاد المسلمون المعاصرون بالفعل بابتكار مثل هذه الوسائل الحديثة، فإذا نظرنا لصيغ التمويل الإسلامي وآليات عمل البنوك الإسلامية والصكوك كأمثلة لمظاهر الاستثمار الحديث، نجد أنها أثبتت أنها حلولا مبتكرة وإن ظلت تلتزم بالبنية الأخلاقية للتشريع الإسلامي، وآية ذلك أن الريادة في الاستثمار في مجال الصكوك على سبيل المثال هي للبنوك الأوربية، وأن انجلترا وفرنسا وأيرلندا تتنافسان على صدارة سوق الصكوك في العالم. ويكفي هنا الإشارة إلى أن جريدة الفاتيكان الرسمية قد نشرت مقالا للباحثة “لوريتا نابليوني” في 3 مارس 2009، ترى فيه أن الحل لكل المشكلات الاقتصادية في العالم يكمن في تبني النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يُعْلي من القيم الأخلاقية في العلاقات الاقتصادية.
إن البنية الأخلاقية للاقتصاد الإسلامي تظل صالحة لكل عصر، وتتكون من مباديء أخلاقية مجردة ومبادئ اقتصادية مجردة، أما الأدوات والمؤسسات والسياسات فهي تتغير مع الظروف، وإذا كان البعض يرى أنه لا يمكن لأي اقتصادي معاصر أن يجد حلولاً لمشاكل الأسواق المالية أو السياسيات المالية والنقدية فى كتب الفقه أو التراث الإسلامي، فلا زال بوسع هذا الاقتصادي أن يجد حلولا حديثة ومبتكرة لهذه المشاكل، وإن كانت في الوقت ذاته تتفق مع الجانب المبدئي لعلم الاقتصاد والذي يمثل البنية الأخلاقية للنشاط الاقتصاد على النحو الذي سجلته كتب الفقه والتراث.
وأرى في ضوء ما سبق أن الإجابة على التساؤل الرئيسي: ” هل هناك اقتصاد إسلامي معاصر؟”، هي قطعا بالإيجاب: “نعم هناك اقتصاد إسلامي معاصر”.